بيت الخلوة - دير سيدة البرموس

الخلوة

مقدمة:

ما هو سر أخطائنا وبعدنا عن الله، وما هو سر تخبطنا وما هو سر انحرافاتنا الروحية والفكرية، وما هو سر تكاثر المشاكل علينا وعدم قدرتنا على حلها؟

إن السر يكمن في علة واحدة: هي عدم معرفتنا لذواتنا جيداً على حقيقتها. ولكن أين أعرف ذاتي على حقيقتها؟ وأين أراها عارية من الثياب الزائفة التي تستتر بعيوبها تحتها؟ وأين أعرف الحق الذي قال عنه الرب: "وتعرفون الحق والحق يحرركم"؟ بل أين أرى الله؟

هل أعرف ذاتي وسط دوامة الحياة العنيفة الجارفة؟ هل أرى الله بين الناس ووسط صخب الحياة وضجيجها؟ لا، لن أستطيع أن أعرف نفسي إلا حينما أخلو إليها في نور الله وفي حضرته المقدسة فأحاسبها وأناقشها. لن أستطيع أن أرى الله في مجده إلا على جبل التجلي، بعد أن أترك العالم خلفي – ولو إلى حين- وأصعد إلى الجبل...

لماذا الخلوة ؟

كثيراً ما كان الرب يسوع يترك الجموع – بل والتلاميذ أحياناً – لكي يصرف بعضاً من وقته في الجبل يختلي ويصلي، ومع أنه - له المجد – لم يكن محتاجاً للصلاة والخلوة إلا أن ذلك كان بمثابة دعوةً لنا تاركاً لنا مثالاً لكي نتبع خطواته، وهكذا بخلوته يجذبنا إلى الخلوة. وهل من دليل يا أخي على فوائد الخلوة وبركاتها الجزيلة للنفس، أقوى من أن الرب نفسه أحبها وكرمها وكان يختلي في البراري والجبال؟!! "ولما صار النهار خرج وذهب إلى موضع خلاء، وكان الجموع يفتشون عليه، فجاؤا وأمسكوه لئلا يذهب عنهم" (لو4: 42).
إننا نحتاج إلى الخلوة بين حينٍ وآخرٍ، بمعنى أن ننشغل بالله مع أنفسنا.. لساعاتٍ طويلةٍ أو أيامٍ. لم تعد الدقائق التي نحاسب فيها أنفسنا كل ليلة كافية للرجوع إلى مواقعنا الروحية التي فقدناها، وهكذا يمتد الهدف من الخلوة في جوهره إلى الحصول على موقع جديد في محبتنا للمسيح. تلزمنا الخلوة لنفتش ونفحص مقدار انحرافنا عن الحق، ولنصلح ما أفسده روح العصر، وما أفسدته المحاكاة والمجاورة للآخرين...
لقد ازدحم الشارع وامتد ضجيجه إلى منازلنا، ولما كان ليس من السهل الإختلاء في الكنيسة نظراً لعدم خلوها طوال الوقت من المؤمنين. ولأجل الخشية من الإلتقاء بالأصدقاء والمخدومين وغيرهم من المحبين وذوي الدالة، وبسبب مطاردة الإلتزامات وإغراءات العالم وغير ذلك... أمست الأديرة في الصحاري والجبال مكاناً مناسباً للخلوة، وملاذاً لأولئك الذين يريدون الإنحلال – لفترةٍ – من كل ما ومن يشغلهم عن الله، للاتحاد به.
أتؤثر يا أخي راحة لنفسك المتعبة، وهدوء لقلبك الذي يموج بمختلف الحركات؟ أتريد دموعاً تبكي بها على خطاياك وتغسل بها أدناس نفسك؟ أتريد قلباً نقياً يشهد له الله بأنه حسب قلبه (أع 13 : 22)؟ إن كنت تريد كل ذلك فعليك إذاً أن تتبع مشورة داود النبي الذي قال: "ها أنذا كنت أبعد هارباً وأبيت في البرية" (مز 55 : 7). ونفذ ذلك في حياتك بالسلوك في تدريب الخلوة.
إن تدريب الخلوة العملية مع روح التأمل هو من أنجح الوسائل لتهذيب النفس وإعادة تكوين الشخصية على ضوء المثل العليا. الخلوة مدرسة للفضيلة، وهي سلم يوصلنا إلى الله ومهبط رسالته الشخصية لنا... إن أصوات الأبواق ودقات الطبول تحول دون سماع أنغام القيثارة الشجية. وهكذا يتعذر علينا سماع صوت الله وسط ضجيج العالم، وتشتت العقل، وخداع الحواس...
لقد سلك جميع القديسين طريق الخلوة وأحبوه. ويعتبر معلمنا القديس أرسانيوس – معلم أولاد الملوك – من أبرز الذين أحبوا هذا الطريق. فقد قيل عنه أنه لما هرب من القسطنطينية وسكن في الأسقيط، كان يداوم الصلاة والتضرع إلى الله أن يرشده إلى ما ينبغي أن يعمل وكيف يتدبر. وبعد ما مضت ثلاث سنوات جاءه صوت يقول له: "يا أرسانيوس الزم الهدوء، وابعد عن الناس، واصمت وأنت تخلص. لأن هذه هي عروق عدم الخطية". وهكذا كان يهرب من الأخوة ويلزم الصمت والهدوء. وقد بلغ من حبه للوحدة والخلود والإنفراد أنه أثناء القداس الإلهي كان يقف ويصلي خلف عمود في آخر الكنيسة حتى لا يشاهد أحداً ولا يشاهده أحدٌ. ومايزال هذا العمود باقياً حتى الآن بدير البرموس.
هكذا أنت أيضاً اخرج إلى البرية واطلب الرب يسوع وأمسكه حتى لايذهب عنك، ثم اجلس تحت قدميه في خلوة مقدسة كما فعلت مريم أخت مرثا فاستحقت كلمات الرب عنها: "إنها اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها" (لو10: 42). بل وحينما جاء ليقيم لعازر من الموت قالت لها مرثا: "المعلم قد حضر وهو يدعوكِ"(يو11: 28).

لتحميل التطبيق الخاص بموقع بيت الخلوة للأندرويد الصورة غير موجودة