دير البرموس البهيّ
عام 2050م، أي بعد نحو 30 سنة من الآن، يكون قد مر 1700 سنة على تأسيس القديس أبو مقار الكبير اللابس الروح لأول تجمع رهباني في البريّة الغربية، وهو دير البرَموس البهي (دير الروم)، ومنذ ذلك الحين وأولاده القديسون ينيرون الدير والبريّة بضياء سماوي وسيظلون. وأول من سكنه الغريبان الصغيران مكسيموس ودوماديوس الّلذان أكملا جهادهما في سنوات قليلة، وقد قال عنهما أنبا مقار أن ثوب الرهبنة افتخر بهما، وقد رأس الدير أيضًا القديس بفنوتيوس (الكيفاليسي)، الذي لمّا كان شابًا سقطت من أحدهم خيارة على الطريق فالتقطها وأكلها، وكلما تذكر ذلك فيما بعد، كان يجلس وحده ويبكي بحُرقة شديدة، وسكنه أيضًا القديس أنبا إيسيذوروس القس الذي قيل عنه إن كل من كان عنده أخ (راهب مبتديء) صغير النفس أو مشاغب أو جبان أو كسول أو عاصٍ أو شتّام أو عليل، وأراد أن يُخرجه من عنده، كان القديس يأخذه عنده ويطيل روحه عليه ويشفيه لكي يخلص. ثم القوي القديس الأنبا موسى الذي يعشقه الجميع، والأنبا أرسانيوس الذي أبى أن يستقبل البطريرك كي لا يفقد وحدته، وقد خرج أيضًا من الدير في القرن الحادي عشر البابا خرستوذولس المُشرع الكنسي العظيم، والبابا يوأنس الرابع عشر في القرن السادس عشر، الذي احتمل تجارب شديدة، والبابا متاؤس الرابع (الميري) الذي كان كثير التواضع، ثم البابا كيرلس الخامس الذي لقبوه (أبو الصلاح) لكثرة تقواه ووداعته، الذي كان أبًا ومرشدًا ومعلمًا للقديس حبيب جرجس، والبابا يوأنس التاسع عشر الذي كانت الشياطين تصرخ من كثرة صلواتة وهو راهب مبتديء، حين كان ساكنًا بالمطعمة بالدير، والقديس البابا كيرلس السادس المحبوب، رجل الصلاة والمعجزات، الذي أعاد للكنيسة مجدها في فترة وجيزة، وإذا ذكرنا آباء وقديسي الدير في العصر الحديث فسوف نبدأ بالراهب عوض البرهيمي، وهو يعتبر بحق أب رهبان الدير حديثًا، حيث مكث بالدير ثلاثة سنوات بمفرده، منذ نحو 170سنة، وكُتب عنه أنه كان فاقدًا للبصر لكن مستنير البصيرة، لا يري بعينيّ جسده بل بعينيّ قلبه، وكان حانيًا شفوقًا، وقد حضر السيد المسيح وقت انطلاق روحه وأمسك بيده، والقمص عبد المسيح المسعودي الكبير الذي دعاه البابا يوأنس التاسع عشر بمعلم الفضيلة، الذي تَوحد بمغارة بجوار الدير لمدة 15 سنة وتنيح عام 1906م، وابن أخيه القمص عبد المسيح المسعودي الصغير الذي كان عالمًا فاضلًا وراهبًا ناسكًا، وقد أتقن عدة لغات تعلمها دون معلم، اللغة القبطية والإنجليزية والفرنسية والعبرية والحبشية ومباديء السريانية واليونانية وبعض الألمانية، وقد ألّف كتابًا في الهمزات في اللغة العربية. ومن العلماء أيضًا الأنبا إيسيذوروس العلّامة المتنيح الذي ألّف العديد من الكتب القيّمة في التاريخ والعقيدة، أهمها الخريدة النفيسة، وقد احتمل التجارب القاسية بصبر لمدة 45سنة، وأيضًا العلّامة القمص ميخائيل مينا مدير مدرسة الرهبان، وصاحب كتاب علم اللاهوت الشهير، وأيضًا مما يُذكر في هذا الصدد أن دير البرموس أول من فتح الباب لرهبنة الحاصلين على الشهادات الجامعية ــ على خلاف ماهو مُتداول بين العامة ــ فقد التحق به القمص فرنسيس البرموسي عام 1936م ليترهب، وقد كان حاصلًا على ليسانس الحقوق من جامعة فؤاد الأول. وماذا أقول عن الآباء المتوحدين بالدير، أذكر القمص عبد الملاك الصعيدي المتنيح عام 1904م، والذي توحد بالدير وأيضًا في براري وجبال عديدة، ومنها برية الفيوم بجوار بحيرة قارون، حيث كانت الأسماك تقفز من البحيرة من تلقاء نفسها لتسقط بين يديه، فكان هو يكتفي بأول سمكة تصل إلى يده ويلقي الباقي في البحيرة، أم أذكر القمص فرج البرموسي الذي كان قسًا متزوجًا بالمنصورة، وزهد في الحياة الحاضرة فاتفق مع زوجته أن يعيش كلًا منهما منفردًا للعبادة وأتى إلى دير البرموس، ثم ازداد في النسك جدًا فتوحد في قلاية بالدير غرب الدوكسار، وكان يخرج لصلاة القداس مرة كل اسبوع ثم يرجع لوحدته ثانية ــ وهو مايسمى الآن بالحبس الأسبوعي ــ واستمر هكذا عشرة سنوات حتى تنيح عام 1878م، أم أذكر الراهب عبد المسيح الحبشي الذي أذهل الجميع بطريقة توحده ونسكة الشديد، حتى رغب بالتتلمذ على يديه الكثيرين من الآباء المعاصرين له، نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر، المتنيح القمص فلتاؤس السرياني، والقمص أنطونيوس السرياني (المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث).دعوني أذكر بعض الأباء الذين لا يعرفهم الكثيرين، وهم من جبابرة الرهبنة في القرن العشرين، القمص باخوم البرموسي المتنيح عام 1960م، وهو أب إعتراف القديس البابا كيرلس السادس، وقد كان حافظًا للتسبحة عن ظهر قلب، ويعمل بالنساخة، ومواظبًا على حضور الكنيسة بلا انقطاع، حتى إنه عندما أصيب بداء الفيل لم ينقطع يومًا واحدًا عن الكنيسة بل يذهب مُتكيء على عصاه، وحينما كُسرت إحدى قدميه كان يجعلهم يحملونه على محفة ليذهب للكنيسة، والقمص فلتس السنباطي البرموسي الذي كان مواظبًا على إتمام قانونه الرهباني وصلاة المزامير كلها، حتى أن إخوته الرهبان رأوه مرارًا كثيرة يصلي مزاميره وهو واقفًا فوق سور الدير، وقد تنيح عام 1956م. وماذا أقول أيضًا، لأنه يُعوزني الوقت إن أخبرت عن أبطال الرهبنة في الجيل الحالي، القمص تادرس البرموسي المتنيح في 2015م، والقمص منصور البرموسي المتنيح في نفس العام، والقمص أرميا البرموسي المتنيح في عام 2018م، والقمص عبد المسيح البرموسي المتوحد المتنيح في 2019م، الذين بالإيمان قهروا ممالك الشيطان، صنعوا برًا، نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود الشياطين، أطفأوا قوة نار الشهوة، نجوا من حد سيف إبليس، تقووا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب الروحية، هزموا جيوش الأعداء الغرباء عن مملكة المسيح.هذه فقط بعض النماذج القليلة، فقديسو دير البرَموس في الماضي والحاضر يحتاج ذكرهم إلى مجلدات كثيرة، وذلك دون مبالغة أو تهويل.
لقد كتب عنهم أحد القديسين قائلًا:
طوباكم يا أبهات، يا أولاد مقاريوس، يا كواكب جبل شيهات، مصابيح دير البرموس.
عمود نور يلالي، نظره مــــقاريوس، فوق الجبــل العــــالي، بنــاء ديــر البرمــوس.
سكنوه آباء أبـرار، صارخين قائلين قدوس، سهارى ليل ونهار، أولاد مقـــــــــاريوس.
هذا هو دير البرموس البهي الذي أعرفه.
دير البرموس في 27/11/2019م